سورة الأعراف - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ} هو خطاب لجميع العالم، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانا، فإنه عام في كل مسجد للصلاة. لأن العبرة للعموم لا! للسبب. ومن العلماء من أنكر أن يكون المراد به الطواف، لأن الطواف لا يكون إلا في مسجد واحد، والذي يعم كل مسجد هو الصلاة. وهذا قول من خفي عليه مقاصد الشريعة.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول: من يعيرني تطوافا؟ تجعله على فرجها. وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله *** وما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} التطواف بكسر التاء. وهذه المرأة هي ضباعة بنت عامر بن قرط، قاله القاضي عياض.
وفي صحيح مسلم أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس قريش وما ولدت، كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء. وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة، وكان الناس كلهم يقفون بعرفات. في غير مسلم: ويقولون نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبا ولا يسار يستأجره به كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عريانا، وإما أن يطوف في ثيابه، فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللقى، قال قائل من العرب:
كفى حزنا كري عليه كأنه *** لقى بين أيدي الطائفين حريم
فكانوا على تلك الجهالة والبدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ} الآية. وأذن مؤذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا لا يطوف بالبيت عريان.
قلت: ومن قال بأن المراد الصلاة فزينتها النعال، لما رواه كرز بن وبرة عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال ذات يوم: «خذوا زينة الصلاة» قيل: وما زينة الصلاة؟ قال: «البسوا نعالكم فصلوا فيها».
الثانية: دلت الآية على وجوب ستر العورة كما تقدم. وذهب جمهور أهل العلم إلى أنها فرض من فروض الصلاة.
وقال الأبهري هي فرض في الجملة، وعلى الإنسان أن يسترها عن أعين الناس في الصلاة وغيرها. وهو الصحيح، لقوله عليه السلام للمسور بن مخرمة: «أرجع إلى ثوبك فخذه ولا تمشوا عراة». أخرجه مسلم. وذهب إسماعيل القاضي إلى أن ستر العورة من سنن الصلاة، واحتج بأنه لو كان فرضا في الصلاة لكان العريان لا يجوز له أن يصلي، لأن كل شيء من فروض الصلاة يجب الإتيان به مع القدرة عليه، أو بدله مع عدمه، أو تسقط الصلاة جملة، وليس كذلك. قال ابن العربي: وإذا قلنا إن ستر العورة فرض في الصلاة فسقط ثوب إمام فانكشف دبره وهو راكع فرفع رأسه فغطاه أجزأه، قاله ابن القاسم.
وقال سحنون: وكل من نظر إليه من المأمومين أعاد. وروي عن سحنون أيضا: أنه يعيد ويعيدون، لأن ستر العورة شرط من شروط الصلاة، فإذا ظهرت بطلت الصلاة. أصله الطهارة. قال القاضي ابن العربي: أما من قال، إن صلاتهم لا تبطل فإنهم لم يفقدوا شرطا، وأما من قال إن أخذه مكانه صحت صلاته وتبطل صلاة من نظر إليه فصحيفة يجب محوها ولا يجوز الاشتغال بها.
وفي البخاري والنسائي عن عمرو بن سلمة قال: لما رجع قومي من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا قال: «ليؤمكم أكثركم قراءة للقرآن». قال: فدعوني فعلموني الركوع والسجود، فكنت أصلي بهم وكانت علي بردة مفتوقة، وكانوا يقولون لأبي: ألا تغطي عنا است ابنك. لفظ النسائي. وثبت عن سهل بن سعد قال: لقد كانت الرجال عاقدي أزرهم في أعناقهم من ضيق الأزر خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة كأمثال الصبيان، فقال قائل: يا معشر النساء، لا ترفعن رؤوسكن حتى ترفع الرجال. أخرجه البخاري والنسائي وأبو داود.
الثالثة: واختلفوا إذا رأى عورة نفسه، فقال الشافعي: إذا كان الثوب ضيقا يزره أو يخلله بشيء لئلا يتجافى القميص فترى من الجيب العورة، فإن لم يفعل وراي عورة نفسه أعاد الصلاة. وهو قول أحمد. ورخص مالك في الصلاة في القميص محلول الأزرار، ليس عليه سراويل. وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور. وكان سالم يصلي محلول الأزرار.
وقال داود الطائي: إذا كان عظيم اللحية فلا بأس به. وحكى معناه الأثرم عن أحمد. فإن كان إماما فلا يصلي إلا بردائه، لأنه من الزينة.
وقيل: من الزينة الصلاة في النعلين، رواه أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يصح.
وقيل: زينة الصلاة رفع الأيدي في الركوع وفي الرفع منه. قال أبو عمر: لكل شيء زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي.
وقال عمر رضي الله عنه: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم، جمع رجل عليه ثيابه، صلى في إزار ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء- وأحسبه قال: في تبان وقميص- في تبان ورداء، في تبان وقباء. رواه البخاري والدارقطني.
الرابعة: قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} قال ابن عباس: أحل الله في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة. فأما ما تدعو الحاجة إليه، وهو ما سد الجوعة وسكن الظمأ، فمندوب إليه عقلا وشرعا، لما فيه من حفظ النفس وحراسة الحواس، ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال، لأنه يضعف الجسد ويميت النفس، ويضعف عن العبادة، وذلك يمنع منه الشرع وتدفعه العقل. وليس لمن منع نفسه قدر الحاجة حظ من بر ولا نصيب من زهد، لأن ما حرمها من فعل الطاعة بالعجز والضعف أكثر ثوابا وأعظم أجرا. وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين: فقيل حرام، وقيل مكروه. قال ابن العربي: وهو الصحيح، فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان والأسنان والطعمان. ثم قيل: في قلة الأكل منافع كثيرة، منها أن يكون الرجل أصح جسما وأجود حفظا وأزكى فهما وأقل نوما وأخف نفسا.
وفي كثرة الأكل كظ المعدة ونتن التخمة، ويتولد منه الأمراض المختلفة، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه القليل الأكل.
وقال بعض الحكماء: أكبر الدواء تقدير الغذاء. وقد بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا المعنى بيانا شافيا يغني عن كلام الأطباء فقال: «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه». خرجه الترمذي من حديث المقدام بن معدي كرب. قال علماؤنا: لو سمع بقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة. ويذكر أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شي، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان. فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا. فقال له: ما هي؟ قال قوله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا}. فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب. فقال علي: جمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطب في ألفاظ يسيرة. قال: ما هي؟ قال: «المعدة بيت الأدواء والحمية رأس كل دواء وأعط كل جسد ما عودته». فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا. قلت: ويقال إن معالجة المريض نصفان: نصف دواء ونصف حمية: فإن اجتمعا فكأنك بالمريض قد برأ وصح. وإلا فالحمية به أولى، إذ ينفع دواء مع ترك الحمية. ولقد تنفع الحمية مع ترك الدواء. ولقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أصل كل دواء الحمية». والمعني بها- والله أعلم- أنها تغني عن كل دواء، ولذلك يقال: إن الهند جل معالجتهم الحمية، يمتنع المريض عن الأكل والشراب والكلام عدة أيام فيبرأ ويصح.
الخامسة: روى مسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد». وهذا منه صلى الله عليه وسلم حض على التقليل من الدنيا والزهد فيها والقناعة بالبلغة. وقد كانت العرب تمتدح بقلة الأكل وتذم بكثرته. كما قال قائلهم:
تكفيه فلذة كبد إن ألم بها *** من الشواء ويروي شربه الغمر
وقالت أم زرع في ابن أبي زرع: ويشبعه ذراع الجفرة.
وقال حاتم الطائي يذم بكثرة الأكل:
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله *** وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
وقال الخطاب: معنى قوله صلى اللَّه عليه وسلم: «المؤمن يأكل في معى واحد» أنه يتناول دون شبعه، ويؤثر على نفسه ويبقي من زاده لغيره، فيقنعه ما أكل. والتأويل الأول أولى والله أعلم. وقيل في قوله عليه السلام: «والكافر يأكل في سبعة أمعاء» ليس على عمومه، لأن المشاهدة تدفعه، فإنه قد يوجد كافر أقل أكلا من مؤمن، ويسلم الكافر فلا يقل أكله ولا يزيد.
وقيل: هو إشارة إلى معين. ضاف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضيف كافر يقال: إنه الجهجاه الغفاري.
وقيل: ثمامة بن أثال.
وقيل: نضلة بن عمرو الغفاري.
وقيل: بصرة بن أبي بصرة الغفاري. فشرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم فشرب حلاب شاة فلم يستتمه، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك. فكأنه قال: هذا الكافر. والله أعلم.
وقيل: إن القلب لما تنور بنور التوحيد نظر إلى الطعام بعين التقوى على الطاعة، فأخذ منه قدر الحاجة، وحين كان مظلما بالكفر كان أكله كالبهيمة ترتع حتى تثلط. واختلف في هذه الأمعاء، هل هي حقيقة أم لا؟ فقبل حقيقة، ولها أسماء معروفة عند أهل العلم بالطب والتشريح.
وقيل: هي كنايات عن أسباب سبعة يأكل بها النهم: يأكل للحاجة والخبر والشم والنظر واللمس والذوق ويزيد استغناما.
وقيل: المعنى أن يأكل أكل من له سبعة أمعاء. والمؤمن بخفة أكله يأكل أكل من ليس له إلا معى واحد، فيشارك الكافر بجزء من أجزاء أكله، ويزيد الكافر عليه بسبعة أمثال. والمعى في هذا الحديث هو المعدة.
السادسة: وإذا تقرر هذا فأعلم أنه يستحب للإنسان غسل اليد قبل الطعام وبعده، لقوله عليه السلام: «الوضوء قبل الطعام وبعده بركة». وكذا في التوراة. رواه زاذان عن سلمان. وكان مالك يكره غسل اليد النظيفة. والاقتداء بالحديث أولى. ولا يأكل طعاما حتى يعرف أحارا هو أم باردا؟ فإنه إن كان حارا فقد يتأذى. وروي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أبردوا بالطعام فإن الحار غير ذي بركة» حديث صحيح. وقد تقدم في البقرة ولا يشمه فإن ذلك من عمل البهائم، بل إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه، ويصغر اللقمة ويكثر مضغها لئلا يعد شرها. ويسمي الله تعالى في أوله ويحمده في آخره. ولا ينبغي أن يرفع صوته بالحمد إلا أن يكون جلساؤه قد فرغوا من الأكل، لأن في رفع الصوت منعا لهم من الأكل. وآداب الأكل كثيرة، هذه جملة منها. وسيأتي بعضها في سورة هود إن شاء الله تعالى. وللشراب أيضا آداب معروفة، تركنا ذكرها لشهرتها.
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشمال ويشرب بشماله».
السابعة: قوله تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا} أي في كثرة الأكل، وعنه يكون كثرة الشرب، وذلك يثقل المعدة، ويثبط الإنسان عن خدمة ربه، والأخذ بحظه من نوافل الخير. فإن تعدى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام الواجب عليه حرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه. روى أسد بن موسى من حديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: أكلت ثريدا بلحم سمين، فأتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أتجشى، فقال: «اكفف عليك من جشائك أبا جحيفة فإن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة». فما أكل أبو جحيفة بملء بطنه حتى فارق الدنيا، وكان إذا تغدى لا يتعشى، وإذا تعشى لا يتغدى.
قلت: وقد يكون هذا معنى قوله عليه السلام: «المؤمن يأكل في معى واحد» أي التام الإيمان، لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه كأبي جحيفة تفكر فيما يصير إليه من أمر الموت وما بعده، فيمنعه الخوف والإشفاق من تلك الأهوال من استيفاء شهواته. والله أعلم.
وقال ابن زيد: معنى {وَلا تُسْرِفُوا} لا تأكلوا حراما.
وقيل: من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت. رواه أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خرجه ابن ماجه في سننه.
وقيل: من الإسراف الأكل بعد الشبع. وكل ذلك محظور.
وقال لقمان لابنه: يا بني لا تأكل شبعا فوق شبع، فإنك إن تنبذه للكلب خير من أن تأكله. وسأل سمرة بن جندب عن ابنه ما فعل؟ قالوا: بشم البارحة. قال: بشم! فقالوا: نعم. قال: أما إنه لو مات ما صليت عليه.
وقيل: إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسما في أيام حجهم، ويكتفون باليسير من الطعام، ويطوفون عراة. فقيل لهم: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} في تحريم ما لم يحرم عليكم.


{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} بين أنهم حرموا من تلقاء أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم. والزينة هنا الملبس الحسن، إذا قدر عليه صاحبه.
وقيل: جميع الثياب، كما روي عن عمر: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا. وقد تقدم. وروي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب شيخ مالك رضي الله عنهم أنه كان يلبس كساء خز بخمسين دينارا، يلبسه في الشتاء، فإذا كان في الصيف تصدق به، أو باعه فتصدق بثمنه، وكان يلبس في الصيف ثوبين من متاع بمصر ممشقين ويقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ}.
الثانية: وإذا كان هذا فقد دلت الآية على لباس الرفيع من الثياب، والتجمل بها في الجمع والأعياد، وعند لقاء الناس ومزاورة الإخوان. قال أبو العالية: كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا.
وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه رأى حلة سيراء تباع عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما يلبس هذا من لأخلاق له في الآخرة». فما أنكر عليه ذكر التجمل، فما أنكر عليه ذكر التجمل، وإنما أنكر عليه كونها سيراء. وقد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم كان يصلي فيها. وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد. وكان ثوب أحمد بن حنبل يشترى بنحو الدينار. أين هذا ممن يرغب عنه ويؤثر لباس الخشن من الكتان والصوف من الثياب. ويقول: {وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ} هيهات! أترى من ذكرنا تركوا لباس التقوى، لا والله! بل هم أهل التقوى وأولو المعرفة والنهى، وغيرهم أهل دعوى، وقلوبهم خالية من التقوى. قال خالد بن شوذب: شهدت الحسن وأتاه فرقد، فأخذه الحسن بكسائه فمده إليه وقال: يا فريقد، يا بن أم فريقد، إن البر ليس في هذا الكساء، إنما البر ما وقر في الصدر وصدقه العمل. ودخل أبو محمد ابن أخي معروف الكرخي على أبي الحسن بن يسار وعليه جبة صوف، فقال له أبو الحسن: يا أبا محمد، صوفت قلبك أو جسمك؟ صوف قلبك والبس القوهي على القوهي.
وقال رجل للشبلي: قد ورد جماعة من أصحابك وهم في الجامع، فمضى فرأى عليهم المرقعات والفوط، فأنشأ يقول:
أما الخيام فإنها كخيامهم *** وأرى نساء الحي غير نسائه
قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله: وأنا أكره ليس الفوط والمرقعات لأربعة أوجه: أحدها: أنه ليس من لبس السلف، وإنما كانوا يرقعون ضرورة. والثاني: أنه يتضمن ادعاء الفقر، وقد أمر الإنسان أن يظهر أثر نعم الله عليه. والثالث- إظهار التزهد، وقد أمرنا بستره. والرابع- أنه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة. ومن تشبه بقوم فهو منهم وقال الطبري: ولقد أخطأ من أثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان مع وجود السبيل إليه من حله. ومن أكل البقول والعدس وأختاه على خبز البر. ومن ترك أكل اللحم خوفا من عارض شهوة النساء. وسيل بشر بن الحارث عن لبس الصوف، فشق عليه وتبينت الكراهة في وجهه ثم قال: لبس الخز والمعصفر أحب إلي من لبس الصوف في الأمصار.
وقال أبو الفرج: وقد كان السلف يلبسون الثياب المتوسطة، لا المترفعة ولا الدون، ويتخيرون أجودها للجمعة والعيد وللقاء الإخوان، ولم يكن تخير الأجود عندهم قبيحا. وأما اللباس الذي يزري بصاحبه فإنه يتضمن إظهار الزهد وإظهار الفقر، وكأنه لسان شكوى من الله تعالى، ويوجب احتقار اللابس، وكل ذلك مكروه منهي عنه. فإن قال قائل تجويد اللباس هوى النفس وقد أمرنا بمجاهدتها، وتزين للخلق وقد أمرنا أن تكون أفعالنا لله لا للخلق. فالجواب ليس كل ما تهواه النفس يذم، وليس كل ما يتزين به للناس يكره، وإنما ينهى عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه أو على وجه الرياء في باب الدين. فإن الإنسان يجب أن يرى جميلا. وذلك حظ للنفس لا يلام فيه. ولهذا يسرح شعره وينظر في المرآة ويسوي عمامته ويلبس بطانة الثوب الخشنة إلى داخل وظهارته الحسنة إلى خارج. وليس في شيء من هذا ما يكره ولا يذم. وقد روى مكحول عن عائشة قالت: كان نفر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينتظرونه على الباب، فخرج يريدهم، وفي الدار ركوة فيها ماء، فجعل ينظر في الماء ويسوي لحيته وشعره. فقلت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: «نعم إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال».
وفي صحيح. مسلم عن ابن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر».
فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: «إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس». والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، تدل كلها على النظافة وحسن الهيئة. وقد روى محمد بن سعد أخبرنا الفضل بن دكين قال حدثنا مندل عن ثور عن خالد بن معدان قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسافر بالمشط والمرآة والدهن والسواك والكحل. وعن ابن جريج: مشط عاج يمتشط به. قال ابن سعد: وأخبرنا قبيصة بن عقبة قال حدثنا سفيان عن ربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر دهن رأسه ويسرح لحيته بالماء. أخبرنا يزيد بن هارون حدثنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال: كانت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكحلة يكتحل بها عند النوم ثلاثا في كل عين.
الثالثة: قوله تعالى: {وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ} الطيبات اسم عام لما طاب كسبا وطعما. قال ابن عباس وقتادة: يعني بالطيبات من الرزق ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي.
وقيل: هي كل مستلذ من الطعام. وقد اختلف في ترك الطيبات والإعراض عن اللذات، فقال قوم: ليس ذلك من القربات، والفعل والترك يستوي في المباحات.
وقال آخرون: ليس قربة في ذاته، وإنما هو سبيل إلى الزهد في الدنيا، وقصر الأمل فيها، وترك التكلف لأجلها، وذلك مندوب إليه، والمندوب قربة.
وقال آخرون: ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: لو شئنا لاتخذنا صلاء وصلائق وصنابا، ولكني سمعت الله تعالى يذم أقواما فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا} ويروى {صرائق} بالراء، وهما جميعا الجرادق. والصلائق باللام: ما يلصق من اللحوم والبقول. والصلاء بكسر الصاد والمد: الشواء: والصناب: الخردل بالزبيب. وفرق آخرون بين حضور ذلك كله بكلفة وبغير كلفة. قال أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي شيخ أشياخنا: وهو الصحيح أشاء الله عز وجل، فإنه لم ينقل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه امتنع من طعام لأجل طيبه قط، بل كان يأكل الحلوى والعسل والبطيخ والرطب، وإنما يكره التكلف لما فيه من التشاغل بشهوات الدنيا عن مهمات الآخرة. والله تعالى أعلم. قلت: وقد كره بعض الصوفية أكل الطيبات، واحتج بقول عمر رضي الله عنه: إياكم واللحم فإن له ضراوة كضرواة الخمر. والجواب أن هذا من عمر قول خرج على من خشي منه إيثار التنعم في الدنيا، والمداومة على الشهوات، وشفاء النفس من اللذات، ونسيان الآخرة والإقبال على الدنيا، ولذلك كان يكتب عمر إلى عمال: إياكم والتنعم وزي أهل العجم، واخشوشنوا. ولم يرد رضي الله عنه تحريم شيء أحله الله، ولا تحظير ما أباحه الله تبارك اسمه. وقول الله عز وجل أولى ما امتثل واعتمد عليه. قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ}.
وقال عليه السلام: «سيد آدام الدنيا والآخرة اللحم». وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأكل الطبيخ بالرطب ويقول: «يكسر حر هذا برد هذا وبرد هذا حر هذا». والطبيخ لغة في البطيخ، وهو من المقلوب. وقد مضى في المائدة الرد على من آثر أكل الخشن من الطعام. وهذه الآية ترد عليه وغيرها: والحمد لله.
الرابعة: قوله تعالى: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} يعني بحقها من توحيد الله تعالى والتصديق له، فإن الله ينعم ويرزق، فإن وحده المنعم عليه وصدقه فقد قام بحق النعمة، وإن كفر فقد أمكن الشيطان من نفسه.
وفي صحيح الحديث: «لا أحد أصبر على أذى من الله يعافيهم ويرزقهم وهم يدعون له الصاحبة والولد». وتم الكلام على {الْحَياةِ الدُّنْيا}. ثم قال: {خالِصَةً} بالرفع وهي قراءة ابن عباس ونافع. {خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ} أي يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء كما كان لهم في الدنيا من الاشتراك فيها. ومجاز الآية: قل هي للذين آمنوا مشتركة في الدنيا مع غيرهم، وهي للمؤمنين خالصة يوم القيامة. فخالصة مستأنف على خبر مبتدأ مضمر. وهذا قول ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة والسدي وابن جريج وابن زيد.
وقيل: المعنى أن هذه الطيبات الموجودات في الدنيا هي خالصة يوم القيامة، للمؤمنين في الدنيا، وخلوصها أنهم لا يعاقبون عليها ولا يعذبون فقوله: {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} متعلق ب {آمَنُوا}. وإلى هذا يشير تفسير سعيد بن جبير. وقرأ الباقون بالنصب على الحال والقطع، لأن الكلام قد تم دونه. ولا يجوز الوقف على هذه القراءة على {الدُّنْيا}، لأن ما بعده متعلق بقول: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} حال منه، بتقدير قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها لهم يوم القيامة، قاله أبو علي. وخبر الابتداء {لِلَّذِينَ آمَنُوا}. والعالم في الحال ما في اللام من معنى الفعل في قوله: {لِلَّذِينَ} واختار سيبويه النصب لتقدم الظرف. {كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} أي كالذي فصلت لكم الحلال والحرام أفصل لكم ما تحتاجون إليه.


{قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33)}
فيه مسألة واحدة. قال الكلبي: لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت غيرهم المشركون، فنزلت هذه الآية. والفواحش: الأعمال المفرطة في القبح، ما ظهر منها وما بطن.
وروى روح بن عبادة عن زكريا بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: {ما ظَهَرَ مِنْها} نكاح الأمهات في الجاهلية. {وَما بَطَنَ} الزنى.
وقال قتادة: سرها وعلانيتها. وهذا فيه نظر، فإنه ذكر الإثم والبغي فدل أن المراد بالفواحش. بعضها، وإذا كان كذلك فالظاهر من الفواحش الزنى. والله أعلم. {وَالْإِثْمَ} قال الحسن: الخمر. قال الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي *** كذاك الإثم تذهب بالعقول
وقال آخر:
نشرب الإثم بالصواع جهارا *** وترى المسك بيننا مستعارا
{وَالْبَغْيَ} الظلم وتجاوز الحد فيه. وقد تقدم.
وقال ثعلب: البغي أن يقع الرجل في الرجل فيتكلم فيه، ويبغي عليه بغير الحق، إلا أن ينتصر منه بحق. وأخرج الإثم والبغي من الفواحش وهما منه لعظمهما وفحشهما، فنص على ذكرهما تأكيدا لأمرهما وقصدا للزجر عنهما. وكذا وأن تشركوا وأن تقولوا وهما في موضع نصب عطفا على ما قبل. وقد أنكر جماعة أن يكون الإثم بمعنى الخمر. قال الفراء: الإثم ما دون الحد والاستطالة على الناس. قال النحاس: فأما أن يكون الإثم الخمر فلا يعرف ذلك، وحقيقة الإثم أنه جميع المعاصي، كما قال الشاعر:
إني وجدت الأمر أرشده *** تقوى الإله وشره الإثم
قلت: وأنكره ابن العربي أيضا وقال: ولا حجة في البيت، لأنه لو قال: شربت الذنب أو شربت الوزر لكان كذلك، ولم يوجب قول أن يكون الذنب والوزر اسما من أسماء الخمر كذلك الإثم. والذي أوجب التكلم بمثل هذا الجهل باللغة وبطريق الأدلة في المعاني. قلت: وقد ذكرناه عن الحسن.
وقال الجوهري في الصحاح: وقد يسمى الخمر إثما، وأنشد:
شربت الإثم ***
البيت وأنشده الهروي في غريبيه، على أن الخمر الإثم. فلا يبعد أن يكون الإثم يقع على جميع المعاصي وعلى الخمر أيضا لغة، فلا تناقض. والبغي: التجاوز في الظلم، وقيل: الفساد.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11